الثلاثاء، 23 سبتمبر 2008

سرّ من رأى 2



















حان الآن وقت مغادرة تلك البحيرة بعد أن جددت نشاطي وعلقت عهدا بيني وبين النار , غادرتها بخطوات متمايلة على صخور سوداء منتثرة كاللؤلؤ على تربة الوادي الأيسر البيضاء , كانت هنالك مجموعة كتل صخرية حمراء كونت إحدى جانبي الوادي المعزول , لم تكن شاهقة الإرتفاع , قررت أن امتطيها حتى ارتقي للجانب الآخر لعلي أرى عالما غير عالم الصخور الصماء هذا .









كنت اصعد بطريقة حلزونية , حتى لا أستعمل يداي في الطلوع , لأن المشعل والمؤونة المتناقصة قد شغلتهما عن تقديم المساعدة , كان ذلك عسيرا , وقبل أن ابلغ نهاية الصعود تراءت أمامي خيوطا رمادية اللون تتصاعد في العلو من جهات متفرقة خلف جانب الوادي الذي اتسلقه , قفزت قفزات أربع طويلة متتالية مندفعا لرؤية ذلك المنظر , بعد أن وضعت قدماي على أعلى صخرة , تراءت قرية صغيرة أمام عيناي , محضونة بشدة بمساحة السهل المعشب المتدرج الذي يحتويها وكأنه سيجرفها إلى أعماق منتصفه , كانت الخيوط الرمادية هي ما تنتجه مداخن الأهالي من دخان باستمرار لقطعة السماء التي غطتها بلونها الأزرق الجميل , وكأن هنالك شكرا قديما بينهما يستوجب استمراره , كان منظر القرية الساكن يجلب لي النعاس , فقد كان شبه خالي من حركة تذكر عدا الخيوط المتسابقة نحو السماء , وبسرعة هززت المشعل المتوهج أمام وجهي حتى يقشع غشاء النعاس المتراكم عليه , مثلما تراكمت صفحات الكربون على أجواف المداخن .







هرولت مسرعا من على صخور الوادي نزولا حتى توقفت قدماي على بساط العشب الأخضر للسهل , مشيت على استعجال حتى تزحلقت باتجاه القرية التي كان فيها بضع منازل قديمة كساها القش البني الكثيف , مكونة من طابق واحد فقط , مرصوصة على شكل صفين متوازيين , يصل بينهما شمالا طاحونة هوائية تتحرك ببطء تدل على ان الهواء متحرك في سكون القرية الهادئ , الذي ينبه زائرها بأن المكان قد غط في نوم عميق منذ أسابيع , كان مركز القرية عبارة عن ساحة حصى مستطيلة , في جهة تلاقي المساكن جنوبا كانت بئر شرب معطلة قد تم ترميمها مؤخرا , حديثة الحبال , ثم في طريقي إليها وإذا بي أسمع كومة أصوات تندفع من جهة الطاحونة البيضاء خلفي , رميت نظراتي على المصدر , وإذا بهم صبيان القرية مع دلائهم نحو البئر كأنهم في سباق نحو الجائزة! , ويالها من جائزة , إنها المياه التي ستعيد لأهالي القرية حركتهم اليومية من وإلى مزارع اليقطين والموز , التي لولا وجود نظام صرف مياه مُتقَن لكانت ساحة تربة خالية , لأن المزارع كانت على رفوف السهل العليا , بينما يتم تصريف مياه المطر فورا نحو بئر الشرب لقلتها , سبقوني بلا مبالاة بشخص غريب بينهم , ربما كثير من عبّار السبيل يمرون على حضن السهل هذا , بعد أن انتهى الصبيان من أخذ حاجتهم , أتاني كبيرهم بدلوه , فشربت منه , لقد كان باردا جدا , فشكرته , وسألته عن سكان القرية إن أمكنني رؤية أحدهم , قال لي إنهم مجتمعون في الطاحونة لأمر رهيب! , اشتعلت أنا والمشعل معا من الفضول الذي انتابني , طلب مني أن أذهب معه الى الطاحونة لمقابلتهم , بينما الصبيان الآخرون يحومون حولي في حلقات رقص وإنشاد جميل حتى وصلنا , لأنهم أذهلوا برؤية مشعلي الفريد! .








اقتربت من باب الطاحونة الخشبي العريض شيئا فشيئا وأنا أسمع صوتا يرتفع شيئا فشيئا , فطرقت الباب طرقتين خفيفتين على صفيحة فضة بمطرقة معلقة مخصوصة لأي طارق حتى يطرق للإستئذان , توقف الصوت حالا! , فُتح الباب , قيل تفضل , رأيت طاولة زرقاء مستديرة , جالس عليها عالي القوم و أسفلهم , رجالهم ونساؤهم من غير شُـبّان , كنت على عتبة الباب , أقف خلف كرسي عال ٍ كان لكبيرهم الذي وصلت لحيته الحمراء الى حافة الطاولة حين استدار , كان مجعد الشعر , غير مغطى الرأس على خلاف باقي الحضور , له عينان زرقاوان تبعثان على التركيز على كل مايقول , طلب مني الجلوس بأدب دون أن يعرف عني شيئا , لعله يريد إكمال حديثه للجمهور أولا , فقد قال الصبية أنهم مجتمعون لأمر رهيب! , من ضمن ما سمعت أنه كان يقول : " كل من لم يحسب لها حسابها , لن تحسب له حسابه , إنّ عاقبته لن تسرّه مطلقا ان لم يفعلها! " , ثم استدار نحوي من غير استغراب لرؤية مشعلي الأصفر تحت سقف الطاحونة الأصفر قائلا : " ما ورائك يا فتى؟ " , اخبرته قصتي و هدفي وأمنيتي , فنظرنظرة إلى الركن الأيمن للطاحونة لثواني مع تنهيدة بطيئة جدا , الذي
أ ُسندت عليه كثير من الرايات الزرقاء الطويلة التي قدّرتها بالعشرات لكثرتها , ثم قال بصوت بطيئ : " ذلك جُلُّ ماتركه شباب القرية لنا عند ذهابهم إليها , منذ الخريف قبل الماضي إلى ربيعنا هذا بلا عودة! " , بعد تلك الجملة تلاشت كل فكرة قد صنعتها لنفسي عن القلعة , وكأن تلك الطاحونة قد بعثرتها كلها في الهواء بلا عودة ولا مبالاة , انصدمت لنصف دقيقة , واستغربت لنصف دقيقة , واحترت حتى غروب الشمس! , ثم قال كبيرهم مطمئنا حالتي : " كل ُّ شئ ٍ بقضاء " !! , انا مؤمن بذلك الكلام , لكن بدون أفكار وقتها , بدون خطة واضحة , بدون اطمئنان البتة , وبينما أعين الجمهور ترقُبُ مشعلي الذي أضاء ما حولهم , كنت أجمع ماتبقى مني من غير أفكاري , لألوذ بالمضي بعيدا عن رايات اللون الأزرق "لون الأمل" الذي في الحقيقة كانت ألوانه تسحب مني الأمل قليلا قليلا لمنظرها المخيِّب بدون حامليها الضائعين , ودليل ذلك أن المشعل بدأ يضطرب في إنارته , لملمتُ شملي و أملي , طلبت منهم الإذن للمغادرة , لم يسمح لي كبيرهم الا ومعي أكياس خبز لذيذ , وشيئا من عسل صافي و موز و يقطين , وقربة مملوئة بماء بارد من البئر العذبة , في الحقيقة كانت المؤونة تنقصني أكثر من الاستماع لهم , شكرت أزرق العينين وكل من رأى مشعلي تحت سقف الطاحون , والصبية كذلك , الذين رافقوني منشدين في حلقات حولي حتى وصولي إلى البئر , ثم ودعتهم واحدا واحدا وأنا سعيد برؤية كل تلك البراءة , وسماع عذوبة تلك الأصوات التي ستذكرني أن القرية قد أفاقت من نومها الساكت أخيرا .








خرجت من تلك القرية .. ومازال الشكر بين المداخن وقطعة السماء الزرقاء مستمرا , في طريق مغادرتي استندت على المجرى الذي يربط بين البئر ومكان تجميع مياه الأمطار التي يضمن بهطولها الأهالي عدم جفاف بئرهم الغالية , كنت مستندا لأن الخروج من حضن ذلك السهل لم يكن سهلا , فهو زلق جدا , حيث من الأفضل لمن أراد دخول القرية أن يركب على قطعة خشب او ما شابهها , لينزلق عليها حتى توصله الى قرب البئر أو الطاحونة , خرجت من ذلك التقعر أخيرا , والحيرة لم تخرج من بالي بعد , في هذا اللحظات .. أشارت الشمس بخفض وهجها لكل من هو تحتها بأن أوان شروقها على أراضي أخرى قد حان , والغروب على السهل قد بدأ , مشيت حتى اختفت الشمس والحيرة عن الوجود , واستمريت بالمشي مع المشعل الأنيق تحت أجنحة السواد , التي سرعان ما لوّنها البدر بلون رمادي ما لبث أن طغى على سقف السماء , في تلك اللحظة أيقنت أن شُكر المداخن لقطعة السماء قد تمّ! , كان البدر من حسنه كان يتمنى ان تقع الراحة على أجزاء المشعل المتقد , لأن نوره في تلك الليلة كان كافيا للدنيا كلها بما فيها المشعل , سألتُ النار قائلا : " أ َمَا ترتاحين الليلة ؟ " , قالت : " أ َمَا راحتي كسر للهدنة ؟ " , قلت : " كلا " , فبدأت ألسنة لهبها بالعودة الى مكان منشأها , حتى لم يتبقى إلا جمر على رأس المشعل لتدفئتي , كنت حينها أسيرُ على الرفِّ الأعلى للسهل وإذا بي أرى بقايا مسكن حجري على يميني , كان إحدى جداريه أعلى من الاخر , حينها سقطت عبرة فاحت على خدي الأيمن , وكأنها كانت تقول : " خفت أن يكون مصير القلعة مشابها عند وصولنا , فخرجتُ الى عالم الفناء وأفنى قبل رؤيتها " , قلت لابأس , التضحية مطلوبة , وبأكثر من عبرة واحدة , كان المكان حول المسكن الحجري يفوح بالنباتات العطرة , وكان كافيا ليستر النائم من عين الغريب , كانت حجارته مرصوصة بطريقة حرفية فنية لا يراها أحد الا في مساكن أهل الجبال السود , لان تلك الصخور كانت تأتي من هناك , قررت أن تلك البقعة هي الأنسب لقضاء ليلتي في هدوء وسكينة , وضعت جنبي الأيمن بالقرب من الجدار المرتفع , والمشعل الذي يغط ّ في النوم بيني وبين الجدار المنخفض , والمؤونة بعيدة قليلا عن رأسي , حينها تجردت من أعباء ذلك اليوم الطويل جدا , لم يكن يغطيني إلا نور القمر الفضي , الذي كان يجعلني ألمع أمام كل نجوم تلك الليلة , التي كانت تزيد إضائتها غيرة وحسدا من انعكاس لون البدر على جسدي النائم .









يتبع ...